امرأةٌ من ثلج 4
"أرجوكِ يا حبيبةَ القلبِ انتظري"
تلكَ النَّظرةُ...
قد حفرتْ صدري كمعولٍ، يبحثُ عن حقيقةٍ
لأرتجفَ من حرارةِ ما أخفيتُهُ سنينَ طويلةً.
"كنتِ هنا قبل..."
تهمسُها الريحُ الحنونُ:
"هنا حيثُ وعدتَني أن نأتيَ معًا..."
كأنَّ العالمَ توقّفَ عن التنفّسِ... ليسمعَ اعترافي
الثَّلجُ... والرِّيحُ... وكلُّ التلالِ،
وأنا... كتمثالِ ملحٍ أمامَ مرآتها.
تقدّمتُ... رغْمًا عنّي،
كأنّ قدَميّ تعرفانِ طريقًا لم أَسلُكهُ من قبلُ،
أوْ ربّما سلكتُهُ في حلمٍ معها نَسيتُه.
"أتتذكّرُ الآن؟"
"لا... لا أريدُ أن أتذكّر..."
لكنَّ الذاكرةَ تتدفّقُ كسيلٍ جارِفٍ،
تحملُ عطرَها من صباحٍ بعيدٍ،
وصوتَ الضّحكةِ التي تملؤني،
وآخرَ نظرةٍ... قبلَ أن ترحلَ.
"قلْ لي..."
يحتضنُني الصوتُ محمّلًا بزخّاتِ الألمِ:
"لماذا لم تأتِ معي؟..."
وَجعٌ...
وجعُ سهمٍ منغرسٍ يلتوي وينزفُ...
كلّما تذكّرتُ وعدي المكسورَ.
أسقُطُ على رُكبتيَّ،
والثلجُ يغمرني كما كنتِ تفعلين... وأبكي،
بكلِّ ما لم أَبكِهِ لحظةَ الفقدِ.
نعم... أعرفُ كلَّ المكانِ،
وكم خطّطْنا لرحلتِنا الأخيرةِ.
هنا، كانت تحلمُ بشهرِ العسلِ،
وتشتهي التّقفُّزَ حولي والاختباء،
وأنا... من كنتُ أُؤجِّلُ... وأُؤجّلُ.
"كنتُ خا...ئفًا"
أهمسُ للفراغِ الذي تركتِهُ في حياتي:
"كنتُ خائفًا من كاملِ مسؤوليّةٍ تُلقى على كتفيَّ،
وكنتُ... كنتُ أمامَكِ جبانًا."
نعم... أراها الآن.
تخرجُ من بينِ الصخورِ،
لا كامرأةِ ثلجٍ،
بل كما كانتْ آخرَ مرّةٍ:
تفّاحٌ ملطّخٌ بكُحلٍ يسري،
ليخنقني بطعمِ النّدمِ.
تخرجُ... وبلوزتُها البيضاءُ تُراقصُ الريحَ،
وعينانِ تحملانِ كلَّ الحبِّ الذي...
لم أستطعْ أن أستقبله.
ويدُها...
كانَ خاتمُ الخِطبةِ الذي لم أستطعْ...
"خُذْ..."
تمدُّ إليّ يدَها بالخاتمِ:
"خُذْ ما لم تستطعْ أن تُعطيَهُ يومًا..."
أرتعشُ بقوّةٍ،
أُريدُ أن أهربَ من ثقلِ ما فعلتُ،
لكأنَّ الحبَّ صارَ سجنًا،
والندمُ صارَ قيدًا لا انفكاكَ منه.
وأقتربتُ... حتى كدتُ أن أُمسكَ بالخاتمِ،
وأقتربتُ...
لأسمعُ همسَها:
"حبيبي... أعرفُ مقدارَ خوفكَ،
وأعرفُ أنَّ الحبَّ أحيانًا يُرعبُ أكثرَ من الموتِ...
لكنَّني أحببتُكَ حتّى في خوفِك،
أحببتُكَ حتى في فرارِك منّي.
لستُ غاضبةً،
ولكنّي حزينةٌ على ما فاتَنا..."
هي الدّموعُ تنهمرُ كمطرٍ دافئٍ على الثلجِ،
و"خَرَزٌ" ينظرُ إليّ بعينينِ متسامحتينِ:
"تعلّمْ أن تُحبَّ مرّةً أخرى...
دونَ خوفٍ، دونَ حساباتٍ معقّدة..."
وتتلاشى...
تتلاشى ببطءٍ،
عطرُ حبيبٍ يذوبُ في لونِ الضّبابِ.
وأصرخُ:
"لا تتركيني...
لم أقلْ لكِ بعدُ كم أُحبّكِ!
أرجوكِ يا حبيبةَ القلبِ، انتظري..."
كان صوتُها البعيدُ يملأ كلَّ حقولِ الثّلجِ:
"قُلْها لمن تُحبُّ من بعدي...
وأنا سأكونُ سعيدةً،
وأعدُكَ أن... أسكنَ قلبَكَ لو تعلّمتَ أن تفتحهُ مرّةً أخرى..."
وحيدًا مرّةً أخرى...
بقي الخاتمُ في يدي،
يحملُ "وعدَ الدّموع" بأن...
أتعلّمَ كيف أُحبُّ دونَ أن أهربَ،
وكيف... أعيشُ دونَ أن أندمَ.
( محمد الحسيني )