لما اكتسحت الحرارة عالم الارياف ،و اشتد فحيح الافاعي و الثعابين في الحقول و الجحور ، قرر احمد وابراهيم الذهاب الى بركة مائية عميقة بواد القرية ، يطلق عليها " الكلتة " ، يقصدها شبان جميع الدواوير المحيطة بدوارهما ، تكتظ فوق أرضيتها الابدان وتتعالى الاصوات و الصيحات ، كما يكثر التدافع و التزاحم حتى يحافظ كل واحد من هؤلاء على دوره في القفز و الانتشاء بغطسته الاستعراضية . غالبا ما كان الكبار يستفيدون من القفز عدة مرات , فيما الصغار ينزوون الى زاوية اخرى و يكتفون بالمشاهدة و الفرجة المعروضة ، بعدما أحسوا بالقهر والاستصغار .
الغريب في الامر ، ان موضوع القفز خرج عن السيطرة ، لما ركب حمزة ، احد الشبان - من دوار مجاور لدوار احمد وابراهيم - انانيته و هواه ، واعلن تحدي القفز من زاوية عالية جدا على التي ألفها عموم القرويين المحليين ، اندهش له الجميع وهم مذعورون يرفعون عيونهم في تعجب و ترقب ، وما ان نزل الى الماء حتى اعتقد احمد ان الوضعية سهلة و في المتناول . ولكي يرفع صورة شبان دواره و يتجاوز التحدي المطروح قرر هو الاخر الصعود الى نفس الزاوية و القفز منها ، لكن صديقه ابراهيم اعترض سبيله قائلا :
لا تفعل يا احمد ؟
لماذا ؟
الامر ليس كما تتخيله .
سأقفز مثل ما فعل هذا الجحش ، ثم استطرد معقبا : من اين اتى هذا الحيوان .؟.. ولماذا يستعرض علينا عضلاته و شجاعته ؟
قل لي : بالله عليك ما هدفه من كل هذا ؟ الا يريد الاستهزاء بنا ؟ الا يريد الحاق اولاد قريتناا بالبهدلة و التقزيم ؟
- لا تهتم يا اخي ، اتركه ان شاء الى جهنم الحمراء .
- انا يا ابراهيم ، لا أستطيع تحمل حركات هذا القرد وهو يكرر قفزه من هذا الارتفاع و نحن ثابتون في اماكننا و كأننا اصنام .
وما هي الا لحظات حتى استقام أحمد فوق النقطة العالية ، وصار اطفال الدوار و باقي الشبان يصفقون له و يهتفون باسمه وهم يرددون :
Aller ahmed aller ahmed aller alker aller alker
استنشق احمد هواء كثيرا و كأنه يضع احتياطا من الاكسجين لمعركته ، فملأ صدره هواء و قلبه اقداما و تشجيعا ، و هو يركز على الجهة التي تكاد تكون أسهل و أوضح ، فأضحى يضرب رجليه في الارض ، يتقدم. يتاخر و كأنه خروف أقرن مقبل على نزال ساخن .
ما ان تغافل القوم الحاضر هناك في الحديث ، عن قدرة هذا اليافع الخلوق ، حتى شاهدوه جثة هامدة فوق سطح الكلتةء التي صارت مياهها حمراء من فرط الدماء الغزيرة ، بعدما ارتطم رأسه بالحجرة الكبيرة التي اعتاد القرويون النط منها .
ذعر الجميع و صار الموكب يغادر المكان فرادى و جماعات ، و بقي ابراهيم وحده يبكي على صديقه و قد شلت سواعده و قدماه على اية حركة و خطوة لتقديم المساعدة لخليله .
وبعدما خيم سكون مخيف على المكان , و استدرك ابراهيم أن البكاء و البقاء في ذات الوقت لن يعالج المشكلة القائمة ، اندفع نحو الجثة محاولا اخراجها ، واذا بصوت فلاح يمنع محاولته قائلا :
- اياك ثم اياك !!!! هذا شغل رجال الدرك ، وليس شغلك ولا حتى شغلي انا .
قلت رجال الدرك ؟
نعم .
ارتجف الولد ارتجافا ، وكانه تلقى خبرا سيئا او اصابته نزلة برد قارس . فركب ادراج الريح في اتجاه منزل صديقه . واذا به وجها لوجه مع والدة احمد التي تركت العجين جنبا و سارعت تهلهل و تولول الى المكان الذي اختطف ابنها البكر .فهم ابراهيم ان هذه الأخيرة توصلت بالخبر من غيره ، ولكنه اندهش و بكى لصورتها و هي عارية الرأس و ثيابها مرشوشة بلطخات من الدقيق وهي تركض غير مبالية بنصائح الجيران و لا بادعية أهل القرية . كلما اقتربت من المكان احست بدقات قلبها تتضاعف و تتسابق وكانها موشكة على الانفجار و التوقف عند هذه القضية المؤلمة التي نزلت بابنها أحمد ، الذي اعتادت على ابتسامته العريضة و هو متوجه الى المدرسة او عاىد منها ، فضلا عن اخلاقه المتميزة سواءداخل البيت مع أخوانه : مراد و سعيد و سميرة او خارجه مع أصدقائه .
ما ان وصلت المسكينة الى عين المكان ، ودون اية التفاتة يمنة او يسرة ولا مشاورة ، نطت الدرويشة في الكلتة الحمراء ماؤها ، محاولة سحب جثة ابنها الحنون الذي تهشم رأسه بسبب مزايدات فارغة و تشجيعات مغشوشة ، فصارت - هي الاخرى - تتخبط في الماء كما تتخبط الخرفان من فرط الالم يوم الذبيحة ، الى لفظت انفاسها و لقيت مصرعها . فشعت الصدمة و عم الحزن كل نقاط القرية و الدواوير المحيطة بها ، ولم يعد أحد يجرؤ على التفكير في الذهاب الى هذا المكان ، فبالاحرى العوم و الغطس هناك !!!!
منذ تلك الفاجعة التي صدمت عقول ووجدان أهل القرية ، حرم الابناء التوجه الى ذاك المكان ، الذي تحول تدريجيا الى وجهة يقصدها الزوار المرضى للانتفاع ببركة مياهها ، بعدما حولها احد اعيان القرية الى بئر واسع له مجاري عديدة مبنية بالاسمنت و الاجور .
القاص : الحسين وبا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق